17 - 07 - 2024

ترنيمة عشق | الهارب من حظيرة القطيع

ترنيمة عشق | الهارب من حظيرة القطيع

غياب الاختلاف والتّعدّد والتّنوّع واحترام الآخر في أي مجتمع يشيع الجهل والاستبداد والتّطرّف والجمود.. وبقدر تَحرّرك من البرمجة التّلقائية أو سابقة التّجهيز بقدر كونك إنسانًا.. وبقدر فقدِك من تميزك الإنسانيّ بقدر ذوبانك التّلقائيّ في ثقافة الجماعة أو القطيع.. هكذا قالوا. 

المجتمع الذي يصهر ويصُب الجميع في بوتقة واحدة لا مجال للتحرّر منها حتمًا نجده لن يحتقر شيئًا قدر احتقاره لكلّ عقلٍ يدعو للتطوّر والإبداع والتّجديد والابتكار، أي أن جماهيره محكوم عليها بما يُسمّى "ثقافة القطيع".

العلماء في مجال عِلم "النّفس الاجتماعي يرون أن النّاس تنقاد وراء آخرين - قد لا يعرفونهم طالما أنّهم جماعة - فيظنّون من نسج خيالهم أنّ هناك "مصلحة ما" وراء هذا الموقف الجماعي، بل وقد يشككون ويقاومون مَن يمنعهم مِن ممارسة هذا السّلوك الجماعي.. ومن هنا عُرفَ أن الجماهير تحكمها: العواطف لا العقلانية.

"الشّرود عن القطيع".. اسم لوحة رسمها رسّام بولنديّ مغمور يُدعى "توماس كوبيرا".. قد لا تثير هذه اللوحة الاهتمام للوهلة الأولى لبساطتها.. غير أنها تصوّر بطريقة عميقة - بل ومثيرة للإعجاب - ما هيّة "ثقافة القطيع" وتأثيرها على صناعة الذّات.

في اللوحة نرى "القطيع" يأخذ شكل طابور من البَشر، ملامحهم زرقاء  كئيبة ومتجمّدة.. وهم أشبه ما يكونون بقوالب الثّلج.

تجمُّد أفراد القطيع كناية عن أن نموّهم توقّف عند مرحلة عُمريّةمعيّنة.. كما أنهم متشابهون وبلا ملامح نتيجة كون أفكارهم وعقلياتهم مُقولبة ومُسبقة الصّنع والتّجهيز.

بسهولة تجذب اللوحة أعيننا بشكل واضح حين نلحظ شيئًا غريبًا فيها.. إنه ذلك الشّخص المندفع بقوّة خارج القطيع للانشقاق والانسلاخ أو بمعنى أدق: للانعتاق من الأَسر. 

والمثير للانتباه أنّ الرسّام لَوّنَه بـ "الأحمر"، أو ربّما الأصح أن نقول أن لوْنه يتحوّل شيئًا فشيئًا إلى الأحمر؛ لوْن النّار ورمز التّحدّي والإصرار والتّمرّد.

نتفاجأ بالرّجُل أقصى يمين اللوحة - يبدو أنه زعيم القطيع أو رمز للسُّلطة - يجاهد مع زميله الآخر إلى يمينه للإمساك بالرّجُل الخارج وإعادته إلى "بيت الطّاعة" كي يبقى - ولن نغالي لو قلنا - إلى "حظيرة القطيع".. فالشرود ممنوع.

قصد الرّسام جعل شكل القطيع يشبه أمواج البحر.. يرمز بذلك إلى طغيان القطيع وجبروته وقدرته على البطش بكلّ من يحاول الخروج على الأعراف المستقرّة والجاهزة.

هذه اللوحة دراسة رائعة عن "الذّاتيّة".. وعن بحث الإنسان عن وجه وهويّة في المجتمعات القطيعية أو الشّمولية.. فتعبيرات وجْه الرّجُل تكسوها المعاناة والألم ، عيناه تصرخان لكنّ رُوحه تقاوم، نظراته مثبّتة على شيء يراه – وحده - من بعيد، قد يكون حُلمه الذي يتوق لبلوغه، أو شغفه لأن يصبح إنسانًا مختلفًا ومتميّزًا عن البقيّة.

"الهارب من سجن القطيع" في هذه اللوحة ربّما يصحّ فيه الوصف: بأنه واحد ممّن قضوا معظم حياتهم وهم يعتقدون بأنهم يدافعون عن أفكارهم وقناعاتهم الخاصّة.. ثم اكتشفوا - ذات وعٍي - أنهم إنما كانوا يدافعون عن أفكار وتصوّرات زرعها في عقولهم أناس آخرون.

وقد قيل: “جمهور جاهل لا يعرف ما يريد؛ أسهل في القيادة من جمهور متعلم يعرف ما له وما عليه.. وليس هناك أسهل من  تذويب "الشّخصية الفردية الواعية” داخل "الجماعة"، فينصاع للسّلوك الجَمعي، وقد يأتي بأفعال لا يرتضيها لو كان يفعلها بمفرده خارج سياق الجماعة.
---------------------------
بقلم: حورية عبيدة 

مقالات اخرى للكاتب

ترنيمة عشق | حتىٰ أنت يا بروتس ؟!